دير استيا تصحو على ألسنة اللهب والكراهية.. نيران المستوطنين تمتد إلى دور العبادة بالضفة الغربية

دير استيا تصحو على ألسنة اللهب والكراهية.. نيران المستوطنين تمتد إلى دور العبادة بالضفة الغربية
مسجد "الحاجة حميدة" بعد تعرضه لاعتداء المستوطنين

استفاقت بلدة دير استيا الواقعة شمال غرب محافظة سلفيت في الضفة الغربية، فجر اليوم الخميس، على مشهد صادم حين أضرم مستوطنون إسرائيليون النار في مسجد "الحاجة حميدة" وخطّوا على جدرانه الخارجية شعارات عنصرية ومعادية للإسلام والفلسطينيين، في جريمة جديدة تضاف إلى سلسلة من الاعتداءات التي تطول دور العبادة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وفقًا لشهادات محلية، فإن مجموعة من المستوطنين اقتحمت محيط المسجد تحت جنح الظلام، وقام أفرادها بتحطيم إحدى نوافذه وسكب مواد حارقة داخله، ما أدى إلى اشتعال النيران في أجزاء من القاعة الرئيسية للمسجد وإتلاف جزء من سجادته، قبل أن يتمكن الأهالي وطواقم الدفاع المدني الفلسطيني من السيطرة على الحريق ومنع تمدده إلى باقي أركان المكان وفق وكالة "قدس برس".

الناشط في مقاومة الاستيطان نظمي سلمان أوضح في تصريحات لوسائل إعلام محلية أن الاعتداء يأتي ضمن "نهج متصاعد يستهدف المقدسات الإسلامية في دير استيا وسائر قرى سلفيت"، مشيرًا إلى أن الأهالي يعيشون في حالة من الخوف والترقب بعد تكرار هذه الهجمات التي غالبًا ما تمر دون محاسبة حقيقية للمعتدين.

وأضاف سلمان أن الاعتداء الحالي يذكّر بحوادث سابقة حين أقدم مستوطنون قبل أعوام على إحراق مسجد الإمام علي بن أبي طالب في البلدة نفسها، إضافة إلى مساجد أخرى في مردا وياسوف، في مشهد يعكس سياسة منظمة تستهدف الرموز الدينية الفلسطينية ضمن سياق أوسع من الانتهاكات ضد المواطنين وممتلكاتهم.

تصاعد ممنهج في الاعتداءات

محافظة سلفيت، الواقعة في قلب الضفة الغربية، أصبحت خلال الأعوام الأخيرة ساحة مفتوحة لاعتداءات المستوطنين، وتشير بيانات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية إلى تسجيل عشرات الاعتداءات على الممتلكات العامة والخاصة في المحافظة منذ مطلع عام 2024، منها اقتلاع مئات أشجار الزيتون، وتخريب منازل قيد الإنشاء، فضلًا عن محاولات متكررة للاستيلاء على أراضٍ زراعية لصالح التوسع الاستيطاني.

وتؤكد تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أن عدد الهجمات التي ينفذها مستوطنون في الضفة الغربية ازداد بنسبة تزيد على 35% مقارنة بالعام الماضي، مع تصاعد لافت منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023، في حين يشير مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة (بتسيلم) إلى أن العديد من تلك الهجمات تتم تحت حماية مباشرة من الجيش الإسرائيلي، أو في ظل تهاون واضح في ملاحقة الجناة.

انتهاك لحرمة المقدسات وخرق للقانون الدولي

تعدّ عملية حرق المسجد الأخيرة انتهاكًا واضحًا للقوانين والأعراف الدولية التي تكفل حماية أماكن العبادة من أي اعتداء، وفقًا لما نصّت عليه اتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة، وكذلك المادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر تدمير الممتلكات الخاصة أو الدينية في الأراضي المحتلة.

وقد دانت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية الحادثة، معتبرة أنها "جريمة كراهية تهدف إلى تأجيج الصراع الديني واستفزاز مشاعر المسلمين"، وطالبت الوزارة المجتمع الدولي والمنظمات الأممية بـ"تحمل مسؤولياتها في حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين"، داعية إلى محاسبة المسؤولين عن تلك الجرائم التي تُرتكب بغطاء من الإفلات من العقاب.

من جانبها، عبّرت منظمة التعاون الإسلامي في بيان لها عن "استنكارها الشديد لجريمة إحراق مسجد دير استيا"، معتبرة أن استمرار الاعتداءات على دور العبادة يعكس تصاعد خطاب الكراهية والتطرف في المجتمع الإسرائيلي، في وقت تتزايد فيه الانتهاكات ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وفي وقت سابق، أكدت المفوضية السامية لحقوق الإنسان في جنيف بيانًا أكدت فيه أن "استهداف دور العبادة يشكّل انتهاكًا خطيرًا لحرية الدين والمعتقد"، داعية إلى فتح تحقيق مستقل وشامل لضمان المساءلة القانونية.

استهداف متكرر

تاريخ استهداف المساجد الفلسطينية ليس جديدًا، إذ وثقت مؤسسات حقوقية فلسطينية وإسرائيلية أكثر من 150 اعتداءً على أماكن عبادة منذ عام 2009، تنوعت بين الحرق والكتابة العنصرية وتخريب المآذن والجدران، ومن أبرز تلك الحوادث، إحراق مسجد النور في قرية المغير عام 2014، ومسجد إبراهيم الخليل في الخليل عام 2019، فضلًا عن اقتحامات متكررة للمسجد الأقصى في القدس من قبل جماعات المستوطنين تحت حماية القوات الإسرائيلية.

ويحذّر مراقبون من أن تلك الاعتداءات لم تعد أعمالًا فردية أو معزولة، بل تتخذ طابعًا منظمًا يتقاطع مع سياسات توسيع المستوطنات ومصادرة الأراضي، في محاولة لفرض واقع ميداني جديد يعمّق الانقسام الجغرافي والسكاني في الضفة الغربية.

تداعيات إنسانية ومجتمعية

في دير استيا، عبّر الأهالي عن صدمتهم من الحادثة، إذ تحوّل المسجد الذي كان مركزًا للتلاقي الروحي والاجتماعي إلى موقع يحمل آثار النار والسواد على جدرانه، ورغم أن الأضرار المادية كانت محدودة، فإن الأثر المعنوي كان بالغًا، خاصة على الأطفال والنساء الذين رأوا في الحريق رسالة كراهية تستهدف وجودهم وهويتهم.

وتشير دراسات ميدانية أجراها مركز القدس للدراسات الإسرائيلية والفلسطينية إلى أن اعتداءات المستوطنين على الرموز الدينية تولّد حالة من الصدمة النفسية الجماعية في المجتمعات المحلية، وتؤدي إلى زيادة الشعور بعدم الأمان، ما يفاقم التوترات ويغذي دوامات العنف.

صمت دولي وغضب محلي

رغم تكرار هذه الجرائم، لم تشهد الساحة الدولية ردودًا متناسبة مع خطورتها، إذ تكتفي معظم الدول الغربية بإبداء "القلق" أو الدعوة إلى ضبط النفس، وفي المقابل، تواصل المنظمات الحقوقية الفلسطينية حملاتها لتوثيق الجرائم وتقديم ملفات قانونية إلى المحكمة الجنائية الدولية التي تدرس منذ عام 2021 ملفات متعلقة بجرائم حرب محتملة في الأراضي الفلسطينية.

ويرى حقوقيون أن استمرار هذه الاعتداءات دون محاسبة يرسّخ ثقافة الإفلات من العقاب ويقوّض الجهود الرامية إلى تحقيق العدالة والمساءلة، داعين إلى تشكيل آلية رقابة دولية لحماية دور العبادة والأماكن التاريخية في الأراضي المحتلة.

حريق مسجد "الحاجة حميدة" ليس مجرد واقعة عابرة في بلدة صغيرة من الضفة الغربية، بل هو مؤشر على مسار متصاعد من العنف الممنهج ضد المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين، وبينما تُطفأ ألسنة اللهب داخل جدران المسجد المحترق، تظل جذوة الغضب الشعبي مشتعلة، مطالبة بحماية حق الفلسطينيين في عبادتهم وأمنهم وكرامتهم، في ظل غياب العدالة الدولية وصمتٍ بات يهدد القيم الإنسانية ذاتها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية